الدامسكو في مواجهة قطن فارس

فؤاد عزام

في أسطورة خيط  القطن  الفارسية الشهيرة ثمة بعد زمني يمتد ليتجاوز المكان , فهو لا ينقطع حتى ينهي حز رقبة الآخر , في حين يحمل عنوانه التاريخي امتدادًا متوارثًا في ظاهره ناعم الملمس وباطنه مغطى ببياض ناصع , إذ أن ما يرمي إليه هو إسالة دم ضحيته قطرة وراء قطرة دون أن يرف للممسك بطرفيه جفن.

في المعنى المجازي أكثر ماتحمل تلك الأسطورة , يتجاوز حالة إنهاء الضحية إلى رسم طريق يمثل حالة تتابعية لمدى أبعد من  الفردية إلى نسيج  يصيغ  رؤية جمعية  , وإن بدت متناثرة في الشكل فإنها تشكل انبعاثا من شرنقة لملم  خفايا نثرها الإعتياش على الآخر .

أما الآخر بنظر الرؤية الفارسية هو عبر التاريخ “العربي”  فلم ينظر إليه في يوم من الأيام كـ جار أو صديق بل العدو  الذي يحمل شكل  الهمجي ” آكل السحالي” الذي جاء من الصحراء وانقض على حضارة ” كسرى ” الذي اندثر ليس في فترة بعيدة بنظر الفرس , فهو حاضر على الطريق الممتد من البصرة إلى البحر الأبيض المتوسط .

هذا الطريق تحول الآن وبين ليلة وضحاها إلى مسار يدخل فيه مثلثا  يبتعد  عن استقامة كان أجهد كل ما في ذاكرته لإسترجاعها واجترارها واقعا بحيث اختار الأسهل عليه والأقسى على ضحيته , فكان أن رأى حلب , لكن قوى كبرى ازاحته عنها فانكفأ إلى البادية ليمر منها نحو البحر .

لقد عدّ الفرس مرابطة الأمريكيين في الشمال عامل احتكاك سرعان مايقطع طريقه الرئيس , لكنه أيضا مد نسيجه  نحو مثلث التنف أو كما يسمى مثلث الرعب . فلم   يكن برأيه استهداف قافلته مؤخرا سوى نهاية  لرغبة أمريكية في تحقيق  وجود ما  في تلك المنطقة , مراهنا على صفقات كان عقدها من ” تحت الطاولة ” مع الأمريكيين في العراق  في مطلع القرن  وأطلقت يده على الأقل في الجنوب العراقي ,لكن يبدو بالنسبة له أن الأمر اختلف الآن عن تلك الفترة .

ما أصاب الفرس بالدهشة هو قيمة الصفقات التي أبرمتها السعودية مع الأمريكيين خلال زيارة ترمب إلى الرياض , فعلى الرغم  من أنهم نظروا على أنها رشاو  لتحشيد أمريكي إلى  جانب الخليج بهدف الحد من نفوذهم إلا أنهم أدركوا معها  صعوبة النزول إلى تحت الطاولة وعقد  صفقات للإستيلاء من خلالها على مثلث الرعب لوصل طريقهم إلى السواحل السورية , فالإدراة الأمريكية الحالية بدت لهم أكثر جدية في التزامها الإقليمي عن سابقاتها , والضربة التي وجهت لقافلتهم جعلتهم  يقتنعون أن  الأمر مختلف كما اقتنع قبلهم الروس حين تم قصف مطار الشعيرات .

لكن  الخشية من تحالف العربي  مع قوى عظمى , ربما حملتهم إلى اظهار براغماتية من نوع ما من خلال خطاب ظهر تصالحيا و صعد مع اعادة انتخاب حسن روحاني رئيسا جديدا لإيران , خاصة وأن الغرب جعل بقصد  أو بغير قصد الإتفاق النووي عالقا في حلقهم دون ابتلاعه وفي نفس الوقت دون لفظه أيضا ,  والأكثر  أنه ربما يكون  حافز المحافظة عيه يحتم عليهم التراجع عما يرغبون  في تحقيقه , لكن هذا هو لفترة زمنية فقط , فاستراتيجية  التمدد في بلاد العرب  لا سيما طريق  البصرة التنف اللاذقية هو هدفهم الإقتصادي الأكثر أهمية بالنسبة لهم من جميع المراقد الدينية التي سيطروا عليها في دمشق وحولها وكانت واجهة عقائدية يحتمون بها .

رؤية الفرس الإيرانيين تنطلق من تصور واقعي إلى حد كبير , وهي مبنية على إدراك ما يريدون من الآخر  ويعتمدون بهذا على امكاناتهم لدعم نفوذهم وتصدير ثورتهم إلى الجوار العربي , فهو مشروع كبير وبعيد  المدى بالنسبة لهم ومردوده الإقتصادي يستحق المناورة خدمة لتحقيق الإستراتيجية التي رسموها ,  في حين أن هذا الجوار لا يمتلك إلى الآن مشروعا  جمعيا  ذاتيا  بل يأخذ تحصينه  الدفاعي من الخارج  .

المال مقابل الأمن يبقى مفهوما يدخل إلى حد بعيد في إطار عمل الخدمات التي تتراجع حين شحه في أقل الأحوال وفي أبعدها فهو يدخل ضمن اتفاق يخضع لظرف الإبتزاز في مراحل لاحقة ترتبط بتقلبات السوق الإقتصادي العالمي وتبعاته السياسية فعلى سبيل المثال إن قانون جاستا الذي يتيح للأمريكيين مقاضاة الحكومة السعودية لما زعم  عن دورها في أحداث 11 أيلول عام 2001 الذي قد يخبو  أو يبرق حسب مقتضيات المصالح  ¸يشكل نموذجا عن دوافع المتطلبات الإقتصادية .

كان مهما لوقف تمدد إيران الإنطلاق من دمشق فهزيمة مشروعها يكمن في قطع طريقها إلى  الساحل من خلال العاصمة الأكثر أهمية والتي باتت تعج بمستوطنات إيران وميليشياتها , فالإستثمار في الثورة السورية كفيل بتحقيق الأمن العربي لأن السوريين  أصحاب الأرض التي تتمدد عليها إيران يحتاجون فقط إلى دعم عربي لا يتجاوز في شقه المادي إلا إلى نسبة قليلة من متطلبات الحماية  الخارجية  .

صحيح أن المال  يتحول  إلى طاقة , لكن  من الصعب أن يتجاوز بشكل كلي الطاقة البشرية  , فلا شيئ ينهي ” أسطورة فارس ” المستحضرة بأقنعة دينية وعقائدية ويقطع خيط قطنها الدموي سوى السوريين  ومن خلال عاصمتهم التي هي أهم محطات طريق الحرير التي شكلت مطامع كبيرة للفرس وغيرهم عبر التاريخ  , فاستراتيجيات عظمى  تلاشت واضمحلت عند أطراف دمشق وبين جنبات نسيجها الذي ظل متماسكا  رغم محاولات تغييره ديمغرافيا , وما زال نسيج الدامسكو هو الاقوى .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى